وسط كل الآثار الاقتصادية السيئة الناجمة عن جائحة كورونا، يستعد العالم لموجة جديدة من الارتفاع في أسعار الهواتف والحواسب المحمولة وأجهزة التلفاز والسيارات والثلاجات. أما السبب فيعود إلى أزمة عالمية جديدة بدأت ملامحها تتضح شيئا فشيئا، جوهرها النقص في إنتاج أشباه الموصلات.
والمعروف أن أشباه الموصلات هي مواد مثل السليكون يمكنها توصيل الكهرباء، وهو ما يجعلها ضرورية للغاية في عالم اليوم الذي أصبحت التقنية في القلب منه. فمنذ أن تم استخدامها لأول مرة في أجهزة الراديو في شكل رقائق أصبحت جزءا لا يتجزأ من جميع الأجهزة الإلكترونية، بل إنها وفقا للجارديان البريطانية تلعب دور العقل في هذه الأجهزة.
الرقائقالبحث في النفايات
يعني هذا ببساطة أن كل منتج يحتوي على أشباه الموصلات سيرتفع ثمنه لتعويض الندرة في سوق الرقائق والشرائح الإلكترونية، وهو ما يعني أيضا أن عليك ألا تفرط بسهولة فيما تملكه من أجهزة وأدوات، بل وأن تبحث جيدا في نفاياتك الإلكترونية عما يمكن إعادة تدويره من أجهزة الكمبيوتر والهواتف القديمة لاستخدامها في الأجهزة الجديدة.
أزمة مزدوجة
بدأ الأمر ببعض التأخير في إمدادات المصانع من الشرائح نتيجة إغلاق بعضها بسبب جائحة كورونا، لكن على الرغم من العودة إلى فتح هذه المصانع، فإن شدة الاحتياج وزيادة الطلب على الأجهزة الإلكترونية كالتلفاز والحاسبات المنزلية نتيجة لتغيير العادات الاستهلاكية أثناء الجائحة أدي إلى وصول الحال إلى وضع الأزمة، إلى جانب تدشين أجهزة ألعاب جديدة، وإطلاق الهواتف العاملة بشبكات الجيل الخامس. والمؤسف أن الوقت الذي اضطر فيه سكان العالم إلى ملازمة منازلهم بسبب انتشار فيروس كوفيد 19 وزادت فيه حاجتهم للتعامل مع أدوات وأجهزة التقنية سواء للترفيه عن أنفسهم أو لإنجاز مهام العمل عن بعد، هو الوقت الذي تراجع فيه إنتاج أشباه الموصلات.
أسباب أخرى لزيادة الطلب
الرقائقمن ناحية أخرى، زاد الطلب علي أشباه الموصلات خلال الفترة الماضية بسبب الشركات العاملة في مجال تصنيع السيارات، والتي بدأت تستثمر في السيارات الكهربائية ذات التقنيات المتقدمة، إلى جانب عودة الطلب على السيارات مرة أخرى للارتفاع خاصة في الصين التي تعتبر أكبر سوق للسيارات في العالم. وكما يقول فالان ينوج، المسئول برابطة صناع أشباه الموصلات: تعافى الطلب على الرقائق في الخريف كما انهار فجأة في الربيع، الأمر الذي أدي إلى اختلال واضح.
تباطؤ الإنتاج
وقد أجبر النقص الذي حدث في إنتاج أشباه الموصلات الشركات الكبرى على تغيير خططها، من ذلك مثلا أن شركة أبل التي تزيد قيمتها السوقية عن التريليوني دولار وأكبر مشتري على مستوى العالم لأشباه الموصلات والتي تنفق نحو 58 مليار دولار سنويا على شراء أشباه الموصلات أجبرت على تأخير إطلاق هواتف آيفون 12 العام الماضي لأكثر من شهرين بسبب نقص الشرائح.
وحدات الألعاب
أما الشركات المصنعة لوحدات تشغيل الألعاب، وعلى رأسها شركة سوني، فأعلنت الشهر الماضي أنها عانت كثيرا في العام الماضي جراء نقص الشرائح، وأنها قد لا تحقق المبيعات التي كانت ترجوها هذا العام من أجهزة PS5 بسبب مشكلة نقص أشباه الموصلات.
أما وحدة أجهزة أكس بوكس في شركة ميكروسوفت فأعلنت أنها تتوقع استمرار مشكلة نقص إمدادات أشباه الموصلات على الأقل حتى النصف الثاني من العام الحالي.
مأزق سامسونج
أما شركة سامسونج فعكس حالها أزمة النقص في أشباه الموصلات من زوايا متداخلة، فهي من ناحية ثاني أكبر مشتري على مستوى العالم لأشباه الموصلات بعد شركة أبل. ومن ناحية أخرى، ثاني منتج على مستوى العالم للرقائق. ومؤخرا أعلنت الشركة أنها قد تضطر إلى تأجيل إطلاق هاتفها الذكي الجديد بسبب هذا النقص العالمي في إنتاج الشرائح. وعلى حد قول نيل كامبلنج المحلل في مؤسسة ميرابود: إنه أمر لا يصدق أن تبيع سامسونج ما قيمته 56 مليار دولار من أشباه الموصلات إلى الآخرين، وتستهلك ما قيمته 36 مليار دولار منها، ومع ذلك تجد نفسها مضطرة لتأخير إطلاق أحد منتجاتها. وقد أوضح كوه دونج جين، الرئيس التنفيذي المشارك لسامسونج، والذي يشغل في الوقت ذاته منصب رئيس قسم الهواتف، أن هناك اختلالا خطيرا في ترتيب واختيار من يحصل على الإمدادات المحدودة من الرقائق.
الرقائقأزمة مصنعي السيارات
وفي عالم السيارات، بات نقص إمدادات الرقائق أمرا مزعجا، فالمواصفات القياسية للسيارات الحديثة كالتوجيه المعزز وأجهزة الاستشعار الخاصة بالمكابح وكاميرات الانتظار تعتمد على الرقائق. كما أنها أحيانا تستخدم في الحلول المتقدمة مثل إدارة المحرك والرادار. ويفاقم من حجم المشكلة في الشركات المصنعة للسيارات أن هذه الشركات تعمل وفقا لإستراتيجية الوقت المناسب “just-in-time”. ويعني هذا المبدأ أن الشركات المصنعة لا تحتفظ بمخزون من المواد التي تحتاج إليها في التصنيع، لكن تطلبها من سلاسل التوريد عند الاحتياج إليها. الأمر الذي جعل الخيار الوحيد المتاح أمامها هو إغلاق خطوط الإنتاج والحد من عمليات البيع.
نهاية القائمة
من ناحية أخرى، فإن مصنعي السيارات الذين قاموا بتقليل احتياجاتهم من أشباه الموصلات بعد تراجع الطلب على السيارات في العام الماضي، وجدوا أنفسهم في نهاية القائمة عندما حاولوا إعادة الطلب. فالمعروف أن صناعة السيارات على المستوى العالمي تشتري ما قيمته 37 مليار دولار من الرقائق. وتعتبر شركتا تويوتا وفولكس فاجن من أكبر من يحصلون على نصيب من هذه الحصة الإجمالية، إذ تحصل كل منهما على ماقيمته أربعة مليارات دولار. وهي قيمة محدودة إذا قورنت بغيرها من القطاعات والشركات. لذا يؤكد الخبراء، أن أكثر من سيتأثر بنقص الرقائق هو صناعة السيارات، لأن استهلاكها المحدود نسبيا سيجعلها في نهاية صف الحاصلين عليها. وإذا كانت شركة أبل على سبيل المثال تنفق ما قيمته 56 مليار دولار في العام على شراء الشرائح، فإن هذا الأمر يجعل لها الأولوية بالطبع في استمرار التوريد.
الرقائقنتائج متوقعة
من جانبها، أعلنت شركة فورد إلغاء بعض دوريات العمل في بعض مصانعها، وأشارت إلى أن أرباحها السنوية قد تتضرر بنحو 2.5 مليار هذا العام بسبب نقص الشرائح، على حين شهدت مصانع شركة نيسان في المكسيك والولايات المتحدة تباطؤا في الإنتاج، حتى إن توقعاتها بشأن المبيعات تصل إلى خفض في عدد السيارات بنحو 150 ألف سيارة لهذا العام. أما شركة جنرال موتورز فكشفت عن أنها قد تواجه تراجعا في أرباحها هذا العام بنحو ملياري دولار، بينما تعتقد شركة رينو تراجع إنتاجها بنحو مائة ألف سيارة هذا العام. كما خفضت شركة هوندا عملاق السيارات الياباني توقعات مبيعاتها لهذا العام.
النفق المظلم
على الجانب الآخر، نجد أن صناعة أشباه الموصلات لا تتسم بالمرونة الكافية ولا يسهل عليها التكيف مع الأحداث الطارئة. وقد ظهر هذا بوضوح منذ عشر سنوات عندما تسبب زلزال في تعطل ثالث شركة منتجة لأشباه الموصلات في العالم، الأمر الذي نتج عنه أزمة في إنتاج الشرائح عالميا، وهو ما استغرق سنوات حتى عادت الأمور إلى سابق عهدها.
ارتفاع الأسعار
وفي ظل الأزمة الحالية لا يمكن زيادة الإنتاج ليغطي النقص الحالي لأن تشغيل مصانع أشباه الموصلات يستغرق عامين على الأقل. فعمليات تصنيع هذه الرقائق -التي اتضح أنها أداة أساسية في تشغيل معظم الأجهزة المحيطة بنا- معقدة للغاية، ولا يمكن بسهولة تشغيل خط جديد لتجميعها وإنتاجها. وقد نتج عن ذلك قيام المصنعين برفع الأسعار بشكل كبير للمرة الثانية خلال أقل من عام. وليست هناك علامة حتى الآن على زيادة العرض أو تراجع الطلب على حين ترتفع الأسعار بشكل مستمر. وهو ما يعني وفقا للجارديان، أن الأمر سينتقل آجلا أو عاجلا إلى المستهلك النهائي. ومن ثم سترتفع أسعار السيارات والهواتف ومعظم الأجهزة مجددا.
وعلى حد قول نيل كامبلنج المحلل في مؤسسة ميرابود: ما يحدث الآن في أسواق الشرائح- التي اتضح أنها تمثل الكثير- أشبه بعاصفة من العرض والطلب، لكن مستوى الطلب الجديد لا يمكن مواكبته، لذا سيحترق الجميع بنيران الأزمة وسينتقل الأمر من سيئ إلى أسوأ.