أمل السعيدي
تحدثني صديقتي عن «الأدب في حياة الناس اليومية» تقول لي إن الناس في تشيلي يقتبسون بابلو نيرودا في كل الأوقات، على الرغم من مستوياتهم التعليمية المختلفة، وأنها عندما تشاهد المسلسلات السورية القديمة، تستطيع أن ترى بوضوح العلاقة بيننا والتراث العربي، لكن إلى أي مدى يبدو هذا واضحاً في عالم اليوم. هو سؤال مُلح فيما قد يبدو عالما لا يسعه من اللهاث التوقف لهنيهة والالتفات لقصة أو قصيدة. تستدرك صديقتي لتقول أن ما لفت انتباهها في حادثة إعصار شاهين التي عصفت بالسلطنة أكتوبر الماضي اقتباس تم تداوله بكثرة من رواية الباغ للكاتبة العمانية بشرى خلفان «يا نوصل رباعة، يا يشلنا الوادي رباعة» إثر الهبة التي قامت في كل ربوع عمان من أجل المناطق المتضررة من الإعصار.
أفكر في هذا بصورة مختلفة لا عن محاولة رصد هذه العلاقات المتواشجة مع الأدب في حياتنا اليومية فحسب بل عن كيفية إحلال ذلك وما هي الأنماط التي نبدو بحاجة إليها أكثر من السابق. فلنتأمل مثالاً واحداً، التفت حولك صديقي القارئ هل ترى أي أحد مرتاح لعمله؟ ألا يبدو أننا نكاد نجن في الأماكن التي نعمل فيها، وأننا احتمالات أكثر تحققا لصرصار كافكا في روايته التحول: «استيقظ غريغور سامسا من أحلامه المزعجة، صباح يوم ما، ليجد نفسه في سريره متحولا إلى حشرة عملاقة» هاربا من الشركة التي يعمل فيها لساعات طويلة تحت إمرة إدارة متسلطة وغير رحيمة، حتى أنهم عندما يبدؤون بالبحث عنه، يود لو يثبت لهم أن ما حال دون التزامه بالعمل، أنه أصبح حشرة عملاقة ولا يقوى على مغادرة الفراش، لا لأنه أهمل العمل بإرادة منه. علينا إذن وفي حالة كافكا «الأيقونية» أن نعيد إنتاج تعاملنا معه، لا بوصفه مغتربا وكئيبا، بل النظر عميقا في نبوءته بشأن العبودية الجديدة المتمثلة في العمل، هزلياً في رغبته لا في معالجة الكارثة التي حلت عليه بشكل مفاجئ في تحوله لحشرة، بل رغبته المستميتة أكثر في تبرير نفسه لمرؤوسيه في العمل.
هنالك مثال آخر، يتمثل في بحثنا المستمر عن مصادر للتشتيت، يقال إن كآبة الليل سببها أننا لبضعة لحظات نواجه أنفسنا دون ضوضاء العالم الخارجي، مع أن معظمنا يقضي النزر الأخير من الليل قبل نومه في التقليب عبر هاتفه المحمول، إما عبر مشاهدة المقاطع المضحكة أو لعب الألعاب التي لا تحتاج لطاقة ذهنية كبيرة، وذلك لأننا قلقون على غير العادة، ومحاصرون على غير العادة أيضاً، إنها محاولتنا الأخيرة لطرد كل أسباب التوتر والاستسلام لحالة من التكرار المنوم التي تصيبنا في تكرار شيء لا يحتاج لأن نتعب في التفكير فيه، إننا نعاني من شرود غير طبيعي وأصبحت الأوقات التي نستطيع التركيز فيها استثنائية، فما أن تفتح كتابك، ستود بعد صفحتين أن تراقب تنبيهات هاتفك وهكذا، ربما نحن بحاجة في هذه الحالة لإحلال الأدب التجريبي الذي يشرك القارئ في عملية القراءة، أقرب لما يكون لأدب تفاعلي، فإن شردت للحظة واحدة أثناء القراءة، اضطررت للعودة من البداية، وأقترح لذلك تحديداً قراءة الأديب الألماني زيبالد.
لا يدخلنا زيبالد في وضع اختبار التركيز فحسب، بل يخلق حالة من إبطاء الزمن، المخرب بالفعل، في إعادة تأمل هذا الخراب، وبناء شيء من غبار ما تحطم بينما نعبر لما نسميه «الحضارة الإنسانية»، فحتى خسائرنا يمكن أن تشكل عالماً قابلاً للعيش فيه، والإنصات إليه. بالمناسبة كان زيبالد في الأوقات التي تفصل بين محاضراته الأكاديمية في الجامعات التي درّس بها، يبحث عن الأماكن المهجورة ويلتقط صوراً لها، كان مهووساً بهذا، ويمكن أن تشعر بطاقة هذا الهامش فيما يكتب، بعيداً عن الوفرة، بعيداً حتى عن ضخامة الأشياء، وبريقها، ملتفتاً للأشياء الخافتة والمطمورة والتي يصدر عنها تشتيت بالغ. وبعد أن يمسك بكلتا يديه بهذه الأشياء غير اللماعة، يضعها في سياق يؤدي إلى وحدة الوجود، لا «وحدة الوجود» كما قدمها العارفون في رومانسيتها بل وحدة تثبت لنا صلة كل شيء بكل شيء آخر، وعن الخيوط السرية التي لن نفلح ما دمنا نركض في الاعتراف بها، خيوط أثر الفراشة التي تتسبب بإعصار في مكان آخر من العالم، حريق الأوبرا الخديوية في مصر، والشحوب تحت عينيّ كافكا بينما يقضي أيامه الأخيرة في المصحة وهو يعاني من السل.
ماكس نورمان نهاية الشهر الماضي نوفمبر 2021 قدم محاولة جديدة لكتابة بورتريه عن زيبالد وبدأ ذلك بالإشارة إلى أنه كاتب حياة. الجدير بالذكر أنه وعندما طلب من زيبالد تصنيف الجنس الأدبي الذي يكتب به، أطلق عليه اسم «كتاب نثري غير محدد النوع» ناسجاً من فوضى التاريخ عوالمه، وكاتباً لسيرته. ألا يكون إذن كاتباً للحياة؟ يمتاز زيبالد بحسب نورمان بالعناد لتجميع عناصر قصته معاً، فهو مجبر على عبور الحدود من خلال الأرشيفات على اختلافها طوال الوقت، كان يطارد اضطرابات القرن العشرين في تذكر مؤلم. طور زيبالد موقفاً مناهضاً من السلطة منذ مراهقته، يقال بأنه كان أول من ارتدى الجينز في مدينته، ولطالما كان غير سعيد، كان ما حدث في ألمانيا قد حطمه، ابتعد عن المنزل وأعاد ابتكار نفسه باسم ماكس، لكنه ورغما عن ذلك يرى أن ،«أشباح الرايخ الثالث لا تزال تطفو في القاعات». إن زيبالد يصحبنا في حالة أشبه بالانزلاق الذي تتبخر فيه العلاقة الحميمة إلى شك، ويبرز على سطح كتابته المصادفات المتكررة، كما تتكرر الأنماط والتواريخ، ومهما اختلفت الصور التي يدعم بها نثره فإنها تخلق طيات في المكان والزمان في آن معاً. وبهذا التكرار نفسه نكتشف هشاشة المعنى والطريقة التي يتم بناء التاريخ والسيرة الذاتية – والتخلص منها – من خلال تعطشنا للتماسك.
لا يهم إن كنا سنرتاح لما نقرأه في أعمال زيبالد وعن شخصياته، قلما أحس الناس بالراحة للنظر فيما تقاطع بين شخصيات زيبالد وأفراد من عائلات قرائه، لكنني أصر عبر هذه المقالة على استدعاء قيمة العناد، كوجهة أساسية في محاولتنا لإبطاء هذا السعار الذي نسميه على غفلة منا حياتنا. هنالك الكثير مما أريد قوله وربما أخصص له حلقات عبر هذه المساحة لكن كحدث يومي يمكن أن يشكل فارقاً، صديقتي سارة في فترة مكوثها في بلد وزوجها في بلد آخر بسبب الجائحة، قرأ لها على الهاتف، قصائد نيرودا لحبيبته ماتيلدا، والتي نشرت في العربية بأكثر من ترجمة منها «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة» وترجمها عن الإسبانية مروان حداد، أحب أن أتخيلها وهي تستمع لمقطع: «كنتُ وحيداً مثل نفق. تجنبتني العصافير/واخترقني الليل باجتياحه الطاغي. /وكي أنجو بنفسي صغتُ منك سلاحاً/سهما لقوسي، حجراً لمقلاعي... يا عطشي، يا اشتياقاً لا ينتهي، يا طريقي الحائر!» من قصيدته الأثيرة لديّ جسد امرأة.