بينما تُكتب هذه الكلمات، يتحرك بطل العالم النرويجي "ماغنوس كارلسن" مثل دبابة بشرية ليحرز يوما بعد يوم تقدّما ثقيلا ضد الروسي "يان نيبومنياتشي" في بطولة العالم للشطرنج المقامة في دبي، موسعا الفارق إلى ثلاث نقاط يصعب جدا على الأخير أن يعوّضها. لكن الملاحظ أنه بداية من المباراة السابعة تحديدا كان الأمر متعلقا أكثر بأخطاء نيبومنياتشي، حيث ارتكب اللاعب الروسي في المباراة التاسعة تحديدا أخطاء قاتلة لا تليق بمستواه، وقد علق لاعب الشطرنج الأشهر غاري كاسباروف على ذلك قائلا إن نيبومنياتشي "انهار نفسيا"، في المقابل كان كارلسن أشبه ما يكون بجدار ثلج صلب، هادئ، أنيق، يتقدم ببطء وثقة.
في هذا التقرير يسرد كريستوفر برجلاند، الرياضي السابق والكاتب في نطاق العلوم بمجلة "سايكولوجي توداي"، الأسباب التي تعطي كارلسن تلك المزايا، وهي غير ذات علاقة بلعبة الشطرنج نفسها بقدر ما ترتبط بعلاقة كارلسن مع ذاته، وطريقته في التعامل مع الشطرنج وكل شيء آخر في حياته، وهي طريقة يمكن لنا -لحسن الحظ- أن نطبّقها أيضا في حياتنا.
يمكن للعبة الشطرنج أن تكون صورة مجازية عن حياتنا اليومية. في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2009، أصبح النرويجي ماغنوس كارلسن، البالغ من العمر ثمانية عشر عاما آنذاك، أصغر لاعب شطرنج يُحرز المركز الأول في تاريخ اللعبة. وقد أثبت كارلسن بذلك أن تحقيق النجاح ليس مُعقدا، وهو يعتمد فقط على طبيعة النشأة وبعض العادات اليومية التي نلتزم بها، وأكبر دليل على ذلك هو نشأة كارلسن وعاداته اليومية والأسلوب التنافسي الذي يتبناه.
على عكس معظم عباقرة الشطرنج -الذين تفرغوا بالكامل لهذه اللعبة قبل عيد ميلادهم الثالث عشر- ظل كارلسن في المدرسة حتى بلغ السابعة عشرة من عمره. حثه والداه على إكمال واجباته المدرسية، وخلق حياة متوازنة عن طريق التجول في الهواء الطلق، والتعرف على الفنون وتشربها من خلال زيارته للمتاحف بانتظام. تعرف كارلسن على الشطرنج في سن صغيرة بسبب والده، ولكن عندما كان أصغر سنا، فضّل ممارسة هوايات أخرى لتسلية وقته، وقد شجعه والداه على استكشافها بنفسه، فتحقيق توازن بين الاستكشاف الذهني والنشاط البدني يضاعف من تطور عقل الطفل ويجعله مرنا.
عندما بلغ عامين من عمره، تمكن كارلسن من ذكر جميع ماركات السيارات الكبرى في النرويج، وعند بلوغه خمسة أعوام، حفظ دول العالم بأعلامها وعواصمها، والذي دفعه لذلك هي العلاقة التنافسية الصحية التي جمعته بأخته الكبرى، ورغبته المؤجَّجة في التغلب عليها في الشطرنج. وبغض النظر عن الشطرنج، التي تدرب عليها كارلسن لمدة ثلاث إلى أربع ساعات يوميا في طفولته، كانت لديه وسائل ترفيه أخرى، منها: كرة القدم، والتزلج، وقراءة الكتب المصورة.
في مراهقته، عُرِف كارلسن بأسلوبه الجريء والهجومي، لكن تحول أسلوبه فيما بعد ليصبح أكثر تأنّيا باتباعه إستراتيجيات ممنهجة، والذي يميّز كارلسن حقا اليوم هو تجنبه الحركات الافتتاحية المعتادة (النقلات الأولى للخصمين في بداية الدور) التي يسهل التنبؤ بها، وميله بدلا من ذلك إلى تبني أسلوب تشويقي لبدء اللعبة، ما يصعب على خصومه مواجهته لعدم قدرتهم -ببساطة- على التنبؤ بحركاته. ما يميزه أيضا أنه -رغم ذلك- لا يشغل باله بكيفية الاستعداد لنقلاته الافتتاحية بالقدر الذي يفعله اللاعبون الآخرون.
في المقابل، فإن تلك الافتتاحيات المميزة التي تبناها كارلسن جاءته على هيئة أفكار طرأت على باله أثناء ممارسته رياضة الجري يوميا على آلة الركض. الصلة بين النشاط البدني وحل المشكلات هو أمر اختبره أي شخص يمارس الرياضة بانتظام. كونك ذا لِياقة بدنية لا يمنحك القدرة على التحمل الجسدي فحسب، بل يزيد من إبداعك وقدرتك على اكتساب مرونة لمواجهة صعوبات الحياة. ولعبة الحياة تشبه الشطرنج، يتطلب إتقانها تدريبات مكثفة والتمتع بثقة وقدرة على التكيّف، إلى جانب التحمّل البدني والعقلي.
عندما سُئِل كارلسن إن كان يعتقد أن ظهوره واثقا من نفسه واعتماده حركات مزيفة قد يضلل المنافسين، كان رده: "يعتمد ذلك على شخصية اللاعب، ربما إذا بدوت واثقا، فقد يهتز خصمك ويخشى القيام بالحركة الصحيحة". تبنى بطل العالم الأميركي في الشطرنج "بوبي فيشر" وجهة نظر مختلفة حينما صرَّح قائلا: "لا أؤمن بعلم النفس، ولكني أؤمن باللعب الجيد، وهذا أهم شيء بالنسبة إليّ".
تُعَد بطولات الشطرنج أحد الأمثلة المثيرة للاهتمام حول تقاطع حدسنا مع حِسّنا الفكري، وهذا ما اتبعه كارلسن حينما تعلم إتقان لعبة الشطرنج ضد برنامج قوي على الكمبيوتر، معتمدا في ذلك على التوازن بين حسه الفكري وحدسه القوي لهزيمة البرنامج. يقول غاري كاسباروف، مدرب كارلسن السابق (وأسطورة الشطرنج الأشهر)، إن إتقان تلميذه لعبة الشطرنج متأصل في الأساس في امتلاكه "حدسا قويا عميقا لا يمتلكه الكمبيوتر، إن كارلسن يتمتع بشعورٍ طبيعي يرشده إلى الأماكن الصحيحة لتحريك قطع الشطرنج".
وصف لاعب الشطرنج البريطاني والأستاذ الدولي الكبير "توني مايلز" ذات مرة غاري كاسباروف -الذي يعتبره الكثيرون أعظم لاعب شطرنج في التاريخ- بأنه "وحش بألف عين"، وفيما يبدو، يمتلك كارلسن نفس ذلك النوع من الطاقة الذهنية التي حازها كاسباروف، فعندما تواجه كارلسن، يكون الأمر أشبه بـ1000 عين فعلا، لكنها تشعرك بأنها على دراية بكل شيء، مع ذاكرة باردة تشبه موسوعة تضم جميع الحركات التي تبناها خصومه من قبل، رغم ذلك كله، فإن ما يميّز كارلسن حقا ويجعله متفوقا في هذا المجال ليس ما سبق، بل هو حدسه القوي، وربما ترتبط هذه الميزة بعاداته اليومية التي تُطَوِّر من أجزاء دماغه وتُكسِبها مرونة.
وفقا لكاسباروف، فإن كارلسن يتمتع بقدرة بديهية على استشعار الطاقة الكامنة في أي قطعة عند تحريكها، وغريزة قوية يَتّبعها لحساب عدد هائل من التحركات التي لا يمكن لأي شخص -ولا حتى حاسوب خارق- أن يحسبها، وتكمن براعته أيضا في قدرته على حساب عشرين نقلة يمكن لخصمه أن يلعبها، واتخاذ الكثير من النقلات وهو معصوب العينين معتمدا في ذلك على حدسه عند الاستماع لصوت تحريك القطع. في هذا الصدد يقول كارلسن: "من الصعب شرح كيف نتنبأ بالخطوة التالية، لكن يعتمد الأمر على حدسك الداخلي وشعورك بأن اتخاذ هذه الخطوة يبدو صحيحا".
على الرغم من أن الشطرنج قد تبدو لعبة لا علاقة لها بالقدرة على التحمل البدني، فإنها في الواقع تتطلب قدرا هائلا من الثبات الانفعالي والتحمل البدني. نستطيع أن نرى كيف أن قدرة كارلسن الإبداعية على الوصول إلى أوضاع لا تُقهَر، وقدرته على التحمل إلى أن تنتهي اللعبة (خاصة في مرحلة خاتمة المباراة)، هي التي تجعل أسلوبه مميزا بحيث يمكن وضعه في مقارنة مع الأساليب التي انتهجها العديد من أبطال العالم السابقين.
يراجع كارلسن حركاته الافتتاحية عادة أثناء ركضه على آلة الجري، فممارسة هذه الرياضة تُبقي ذهنه يقظا وتُكسِبه لياقة بدنية عالية، وهذا ما يصفه كارلسن بقوله: "هذه البطولات والمباريات الطويلة مُرهقة للغاية، خاصة في نهايتها". كما أنه أفاد ذات مرة لوكالة الأنباء الأميركية "أسوشيتيد برس": "إن كنت في حالة بدنية جيدة، وبإمكانك المحافظة على تركيزك، فستكون الشخص الذي يستفيد من أخطاء خصومه".
مع انتهاء البطولات، نكتشف أن اللاعبين الأصغر سنا هم الذين يتمتعون عادة بهذه الميزات، لذا يضطر اللاعبون الآخرون إلى أن يسعوا لمواكبتهم بالحفاظ على لياقتهم البدنية أيضا، فكلما تقدمنا بالعمر زادت أهمية الحفاظ على لياقتنا البدنية لنكتسب من خلالها روحا تنافسية تستطيع الانسجام مع عالم شديد المنافسة. يصب كارلسن جمّ تركيزه على المرحلة المتوسطة والنهائية* في اللعبة، في حين يتجنب التفكير المفرط في مرحلة الافتتاح على عكس معظم اللاعبين، فيعلِّق قائلا: "لا تشغلني الافتتاحية كثيرا، ربما تجذب القليل من تركيزي، لكنها ليست هدفي الأساسي للفوز كما يعتبرها باقي اللاعبين، وإنما هدفي هو التأكد من حصولي على وضع دفاعي قوي، وبعدها ستبدأ المعركة الحقيقية في المرحلتين، المتوسطة والنهائية".
وُصِفتْ براعة كارلسن في مرحلة نهاية المباراة بأنها واحدة من أعظم الأساليب في التاريخ. حلل لاعب الشطرنج الإنجليزي والمعلم الكبير "جوناثان سبيلمان"، التنقلات الأخيرة التي تبناها كارلسن في مرحلة نهاية اللعب في بطولة لندن الكلاسيكية عام 2012، ووصف صموده إلى المرحلة النهائية وقدرته على التحمل باسم "تأثير كارلسن"، ملقيا الضوء على النهج الذي تبناه النرويجي أثناء اللعب بقوله: "ذلك المزيج بين مهاراته، بجانب سمعته التي لا تقل أهمية عنها، هو السبب الرئيسي في دفع خصومه لارتكاب الأخطاء. يترك كارلسن انطباعا حول قدرته على الاستمرار في اللعب بهدوء ومنهجية إلى الأبد، وربما الأهم من ذلك كله هو قدرته على اللعب دون خوف، وهذا ما يجعل منه وحشا يبهت أمامه العديد من المنافسين".
نجحتْ إستراتيجية التحمل الفائقة لكارلسن، وحققت له النجاح. في هذا الصدد، أفاد فلاديمير كرامنيك، بطل العالم السابق، أثناء مقابلة له عام 2012 بمجلة "نيو إن تشيس (New in Chess)" قائلا: "يرجع نجاح كارلسن إلى حالته الصحية والبدنية الجيدة، وقدرته على تجنب الزلات النفسية التي قد يقع فيها معظم اللاعبين، وهذه القدرة تمكِّنه من الحفاظ على مستوى عالٍ من اللعب خلال المباريات التي تتطلب وقتا طويلا، في الوقت الذي تنخفض فيه مستويات الطاقة لدى الآخرين".
في عام 2013، تجاوز كارلسن الرقم القياسي الذي وصل إليه كاسباروف، ليحقق بذلك أعلى رقم على الإطلاق في تصنيفات الاتحاد الدولي للشطرنج "FIDE" (المنظمة العالمية للشطرنج التي تنظم جميع البطولات التي تقام في أغلب مناطق العالم).
في نهاية المطاف، علينا إدراك أن لعبة الحياة تشبه أي رياضة تنافسية، فالتحديات البدنية والفكرية اليومية تعزز جميع أجزاء الدماغ، ويمنحك قضاء بعض الوقت يوميا في تمرين جميع عضلاتك الجسدية والفكرية ميزة مهمة، بل ويزيد ذلك من قدرتك على التحمل واكتساب سرعة في الأداء، وتُعَدّ كل هذه المهارات ضرورية لتحقيق أفضل ما لديك داخل الملعب وخارجه.
———————————————————–
*يمكن تقسيم مباراة الشطرنج إلى ثلاث مراحل: الأولى هي الافتتاحية "Opening"، وهي الطريقة التي تبدأ بها المباراة وتحرك قطعك بنمط محدد متكامل، ثم تليها مرحلة منتصف المباراة أو وسطها "Middlegame"، ثم نهاية المباراة "Endgame".
———————————————————-
هذا المقال مترجم عن Psychology Today ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
ترجمة: سمية زاهر.