يوسف أبولوزيروي «شيخ المترجمين العرب عن الإسبانية» صالح علماني 1949-2019 أنه توجّه إلى الترجمة بالصدفة، فقد كان أصلاً يدرس الطب في إحدى الجامعات الاسبانية، لكنه تحوّل إلى دراسة الأدب، وذات يوم نصحه أحد أصدقائه بقراءة «مئة عام من العزلة» لماركيز ليقول بعد ذلك أنه أصيب بصدمة بعد قراءة الرواية: «لغة عجائبية شدّتني بعنف إلى صفحاتها».
لم تكن صدمة علماني من اللغة الاسبانية، بل من الرواية المكتوبة بالإسبانية، ومن تلك الصدمة ستعرف الثقافة العربية ظاهرة ترجمانية كبرى مكثّفة في فرد سيكون وحده جسراً متيناً بين الثقافتين أو الأدبين: العربي، والإسباني.
نقل علماني إلى العربية عن الإسبانية: ماريو بارجاس يوسا، إيزابيل الليندي، جوزيه ساراماجو «البرتغالي»، إدواردو جاليانو، إدواردو ميندوثا، وغيرهم من أعلام الأدب الروائي الإسباني وفي أمريكا اللّاتينية.
أهمية صالح علماني تكمن في اتجاهين، أولاً: لغته العربية الصافية، وثانياً: تمكنه الثقافي والجمالي من اللغة الإسبانية، وبكلمة ثانية لم يكن في حاجة إلى لغة وسيطة (ثالثة) لينقل عن الإسبانية، بل، كان يشرب، كما يقولون، مباشرة من رأس النبع.
صالح علمانينشر صالح علماني ترجمته لإحدى روايات ماركيز «ليس لدى الكولونيل من يراسله» في عام 1979، وفي عام 1981 أصدر مع المترجم عاصم الباشا ترجمة مشتركة لمختارات من شعر الإسباني الكبير «رفائيل البيرتي» عن دار الفارابي في بيروت، وإذاً، بدأ اهتمام العرب بترجمة الرواية الإسبانية والشعر الإسباني عملياً قبل أكثر من أربعين عاماً، ولم يكن صالح علماني وحده من جذبته الإسبانية إلى الترجمة، فلدينا في مكتباتنا الشخصية ترجمات عديدة لفيدريكو جارسيا لوركا إلى العربية، ومن أقدمها ترجمة لمختارات من شعره أنجزها عدنان بقجاتي في عام 1980.
منافس
في أواسط السبعينات، وأواسط الثمانينات اتسعت ظاهرة الترجمة عن الإسبانية بشكل خاص بين الآداب الأوروبية، صحيح أن الفرنسية أيضاً نقلت إلى العربية على نطاق واسع من جانب مترجمين عرب، وتحديداً اللبنانيين منهم الذين يجيدون الفرنسية ويقرأون ويكتبون بها أفضل مما يكتبون بالعربية، أحياناً، غير أن الترجمة من الإسبانية هي أيضاً منافس ثقافي للفرنسية إن جاز التعبير، ثم لا تنس صعود تيار أدبي نقدي يُسمى «الواقعية السحرية» المرتبط برواية أمريكا اللّاتينية في سبعينات القرن العشرين وتحديداً بعد رواية «مئة عام من العزلة» التي بدا وكما لو أن هذه الرواية بالذات هي مبتدأ وخبر «الواقعية السحرية» التي جذبت إليها ليس المترجمين العرب فقط، بل وجذبت إلى الأدب المكتوب بالإسبانية قاعدة عريضة من القرّاء والنقّاد والكتّاب العرب.
بالطبع نعرف أن «شيخاً» آخر من أعلام الترجمة من الإسبانية إلى العربية هو د. عبدالرحمن بدوي قد ترجم «دون كيخوتة» في أكثر من ألف صفحة من القطع الكبير وصدرت هذه الترجمة قبل نحو 20 عاماً، وتظل علامة بارزة في خريطة المشهد الترجماني من العربية إلى الإسبانية.
في التسعينات من القرن العشرين غادر العراق إلى أوروبا الكثير من الشعراء والروائيين بحثاً عن بيئات ثقافية واجتماعية بعيدة عن متواليات السياسة المريرة في بلدانهم، ومع أن تجارب الاغتراب والمنفى هي دائماً ذات طابع درامي أو وجودي أحياناً، إلا أن هجرة هؤلاء الكتاب من زاوية ثانية كانت بالغة الإيجابية بالنسبة للثقافة العربية من حيث أن بعض هؤلاء الكتاب العرب المهاجرين تعلّموا لغات أوروبية مختلفة، وأتقنوها تماماً، ونقلوا آداب هذه اللغات إلى العربية، ومن بين هؤلاء الشاعر العراقي عبدالهادي سعدون «مواليد 1968»، والكاتب والشاعر العراقي محسن الرملي «مواليد 1967».
حصل عبدالهادي سعدون على درجة الدكتوراه في الأدب والفلسفة من إحدى الجامعات الإسبانية بعدما غادر إلى إسبانيا في عام 1995، ونقل إلى العربية منتخبات من الشعر الإسباني المعاصر «ما بعد الحرب الأهلية إلى اليوم»، ومن شعراء تلك المرحلة الإسبانية قرأنا بالعربية مختارات لكل من: كارلوس بوسونيو، خوسيه ابيرو، آنخل جونثاليث، خايمه خل بيدما، أجوستين جويتسولو، خوسيه آنخل بالينته، كارلوس بارال وغيرهم العديد من الشعراء والشاعرات من إسبانيا. وضع عبدالهادي سعدون أو نقل إلى العربية من الإسبانية 66 شاعرة على شكل أنطولوجيا أعطاها اسم: «رقة ماء يتبدّد بين الأصابع» و«مئة قصيدة وقصيدة من الشعر الإسباني الجديد»، واستطاع بلغته الشفافة تقريبنا من روح الشعر الإسباني المعاصر في مئة عام مضت، ويعود ذلك إلى كونه شاعراً، فإذا كانت الترجمة شكلاً من أشكال التأليف، كما يرى الناقد السعودي سعد البازعي، فإن ترجمات عبدالهادي سعدون حافظت على ما يمكن أن يسمى «المُؤَلَّفْ» الغنائي الشعري بروح الإسبانية الأصيلة، واستحق على هذا التخصص الترجماني الذي أفاد ثقافتنا العربية ثلاثة تكريمات إسبانية يستحقها عن جدارة: جائزة ماتشادو للإبداع الأدبي، جائزة مدينة سلمنكا، ووسام الاستحقاق من المنتدى العربي الإسباني.
مئة_عام_من_العزلةالتجربة الترجمانية الثانية من الإسبانية إلى العربية كانت على يد الشاعر والكاتب والأكاديمي محسن الرملي الذي غادر إلى إسبانيا في عام 1995، ويعمل حالياً، كما تقول سيرته في الموسوعة الحرّة أستاذاً في جامعة سانت لويس الأمريكية في مدريد.
ترجم محسن الرملي من الإسبانية إلى العربية ومن خلال جهده الثقافي الأصيل تعرّفنا إلى مختارات من الشعر الإسباني في العصر الذهبي، ومختارات مشابهة من القصة القصيرة الإسبانية، ونقل إلى العربية مختصر تاريخ الأدب الإسباني من العصر الوسيط وحتى نهاية القرن العشرين.
تجربة الرملي في الترجمة ثنائية أو مزدوجة، فهو أيضاً نقل من العربية إلى الإسبانية مختارات شعرية لشعراء عرب، ونقل أنطولوجيات عربية إلى الإسبانية، كما نقل نصوصاً أدبية عديدة لكل من: نجوم الغانم، إبراهيم نصر الله، عبدالوهاب البياتي، محمد مهدي الجواهري، نازك الملائكة، سعاد الكواري والكثير من شعراء وروائيين وقصّاصين عرب.
في المغرب العربي أيضاً هناك من اهتم بالترجمة من الإسبانية إلى العربية مثل المترجم المغربي عمر بوحاشي الذي عمل في هذا الحقل منذ ثمانينات القرن العشرين.
اليسار على الخط
لا ننسى بالضرورة أن ذروة صعود الترجمة إلى الإسبانية في تاريخها المعاصر، وتحديداً في السبعينات، وقبل ذلك بسنوات، قد تزامن مع صعود ما كان يسمى اليسار الثقافي العربي الذي كانت بعض الأسماء الشعرية ملهمة له وبمثابة أيقونات تعلّق بها ذلك اليسار من مثل: رفائيل البيرتي، ولوركا، ونيرودا، وماتشادو وهم شعراء إسبان. وفي القوس الكاريبي مثل الروائي جورجي آمادو، وبعض شعراء كوبا وقوس الكاريبي فضلاً عن التأثيرات العاطفية الأممية لأسماء جاذبة من مثل أراجون، وجيفارا، وماوتسي تونج وغير ذلك من أسماء كانت وربما ما زالت تشكل إغراء وجدانياً وثقافياً لوسط الترجمة العربي، وكانت اللغة الإسبانية في القلب من هذا الوسط الوجداني العالمي سياسياً وثقافياً، إضافة إلى ما كان يسمى الأدب الواقعي التقدّمي ويقوم الكثير منه على الإسبانية، والفرنسية، والروسية.