حملت العديد من مقاطع الفيديو التي صُورت في مكاتب الشركات والمؤسسات العامة والخاصة حول العالم، في بدايات عقد التسعينيات من القرن الميلادي الماضي، مشاهد لا تخلو من مواقف طريفة حينا، ومحرجة أحيانا أخرى لموظفين ومستخدمين يحاولون التأقلم مع الوافد الجديد إلى مكاتبهم، الذي عُرف منذ ذلك الوقت بجهاز الكمبيوتر، أو الحاسوب، حسب التسمية العربية التي اختيرت له.في ذلك الوقت لم يعلم كثيرون ربما، أن ذلك الوافد الجديد يحمل في أحشائه اختراعا ونظاما إلكترونيا عجيبا سيعرف لاحقا باسم الشبكة المعلوماتية الدولية، أو الشبكة العنكبوتية، المعروفة اختصارا باسمها الإنكليزي «الإنترنت»، وهي ما ستغير مستقبلا، وقد فعلت، طبيعة وأساليب تعامل البشر مع قضايا البحث، أو الاطلاع، أو جمع وتلقي وإرسال المعلومات والوثائق والبيانات في مختلف الحقول المعرفية، ومناحي الحياة، وحتى الرسائل والآراء الشخصية، جامعة كل ذلك في بوتقة عالمها اللامحدود.جاء الظهور الفعلي والحقيقي لشبكة الإنترنت، الذي اتسم في سنواته العشرين الأولى بالسرية ومحدودية التداول، في عز الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق، في نهاية عقد الستينيات وبداية عقد السبعينيات من القرن الميلادي الماضي، كأحد أهم انعكاسات تطور أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) في تلك الفترة. منذ ذلك الحين استمرت وتطورت شبكة الإنترنت كبرنامج سري يتبع وزارة الدفاع الأمريكية لضمان نقل وحماية المعلومات وقت الحرب. مع انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة في بداية التسعينيات، لم تعد هناك حاجة إلى إبقاء صفة السرية على شبكة الإنترنت، ورأت الولايات المتحدة، أن الوقت والتطورات على الساحة الدولية، باتا يسمحان بإخراج هذا الإنجاز العلمي والتقني الكبير والمتقدم إلى العلن، للاستفادة منه على نحو مختلف كان قد خُطط له على ما يبدو منذ زمن طويل. وبمعزل عن التعمق في الإحصاءات والأرقام والبيانات، التي تؤكد تطور وتصاعد الأهمية الحيوية لشبكة الإنترنت في الحياة المعاصرة، فإنه من المنطقي القول، إن الأجيال الجديدة التي ولدت مع بدء انتشار الشبكة العنكبوتية للاستخدام المفتوح على مستوى العالم في بدايات عقد التسعينيات من القرن الماضي، بات من الصعب عليها تصور انفصال مجرى حياتها وعاداتها اليومية عن التفاعل والتواصل مع شبكة الإنترنت بكل ما تؤمنه وتتيحه هذه الشبكة من خدمات ونُظم كانت حلما بالنسبة للأجيال التي سبقتها.عمليا نجح أصحاب ومبتكرو هذه التقنية الفائقة التقدم في طرح منتج غير عادي، تحول تلقائيا مع تطور إمكاناته وتنوع محتوياته وخدماته، إلى إدمان حقيقي عند المستهلكين عبر العالم، وضرورة لا غنى عنها في الحياة المعاصرة، وهذا شكل بحد ذاته بابا واسعا أمكن من خلاله الولوج إلى عالم جديد ورحب في مجال جمع المعلومات والبيانات عن مستخدمي شبكة الإنترنت من أفراد ومؤسسات وجماعات، بما يرقى إلى مستوى «التجسس» عليهم ومراقبتهم بشكل شبه وثيق.
ومع أن هذا الأمر لم يعد سرا، يتجاهل مع ذلك كثيرون من مستخدمي الإنترنت هذه الحقيقة لاعتقادهم أن طبيعة أنشطة البحث والاطلاع والتدوين والتلقي والإرسال، التي يقومون بها على الشبكة، لا تشكل خطرا عليهم، ويُفترض ألا تصنفهم في قوائم «خطرة أو مشبوهة» وفق معاييرالقائمين على جمع البيانات والمراقبة. عمليا من الممكن تصور أن الجهات المستفيدة معلوماتيا واستخباراتيا وبحثيا من استخدام الناس العاديين لشبكة الإنترنت، تقوم بتصنيف المستخدمين إلى فئات مختلفة، يتحدد المنتمون إلى كل واحدة منها بحسب طبيعة استخدام المرء للشبكة. ففي أقل الاحتمالات سوءاً، يجري الاطلاع إلكترونيا على طبيعة وفحوى المواقع الإلكترونية التي يتصفحها المستخدم العادي، ويزورها بانتظام، وأيضا فحوى اتصالاته ورسائله التي يتبادلها مع الآخرين عبر خدمة الرسائل الإلكترونية المجانية، أو تطبيقات المحادثات الفورية، وعلى آرائه ومواقفه السياسية والاجتماعية، التي يدونها على واحدة من وسائل التواصل الاجتماعي، واستخلاص اللافت فيها، أو مقارنتها، على سبيل المثال، مع أنشطة وتعليقات مستخدمين آخرين ينتمون إلى البيئة الاجتماعية والثقافية والجغرافية ذاتها، للخروج بتصور عن أمزجة واتجاهات وميول الناس والمجتمع، تجاه مواضيع محددة كالسياسة والدين، إضافة إلى القضايا الاجتماعية والمعيشية المطروحة وهو ما تستفيد منه مؤسسات الأبحاث والدراسات، سواء المستقلة، أو ذات الصلة بالمؤسسات والأجهزة الاستخباراتية. تلعب مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات التواصل بالصوت والصورة والرسائل النصية، دورا محوريا في تأمين كل هذه المعلومات عن المستخدمين عبر جذبهم إليها من خلال مجانية الخدمة التي تعرضها عليهم، ومن اللافت أن هذه التطبيقات والمواقع تعلم المستخدم في اتفاقية الاستخدام أن من حقها الاطلاع على بياناتهم الخاصة، وأماكن تواجدهم وما يطلعون عليه أو يدونونه من محتوى على منصتها، للتأكد من عدم تعارضه مع سياساتها، لكنها بالمقابل لا تتحدث مطلقا عن ما بات معروفا ومتداولا من خلال تسريبات لوقائع وتجاوزات ثبت قيامها بها، من قبيل «بيعها» أو «نقلها لكل ما تعرفه عن المستخدمين وأنشطتهم على منصاتها، لجهات تقبع في الخفاء، سواء لأغراض تجارية أو استخباراتية.ويميل البعض إلى أن الأرباح والإيرادات التي تعلنها كبريات منصات وتطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات الفورية المجانية، مبالغ فيها وتهدف إلى اعطاء انطباع بأنها مؤسسات وشركات تهدف في النهاية إلى الربح، في حين يكمن عملها وهدفها الحقيقي في جمع كم لا يصدق من المعلومات المختلفة النوعية والأهمية، ووضعها تحت تصرف من يهمه الحصول عليها لتحليلها واستخلاص ما يهمه منها. وحسب هذا الرأي لا يمكن على الإطلاق استبعاد فرضية أن هذه المنصات ذاتها، ما هي إلا واجهات لمؤسسات وأجهزة أمنية، رأت في شبكة الإنترنت بما تحويه من خدمات وتطبيقات وأجهزة خدمية وحيوية أخرى متفرعة عنها كأجهزة الموبايل وأجهزة تحديد المواقع والاتجاهات، مكانا أو مصيدة مناسبة تماما للقيام بعملها وتحقيق غاياتها. من هنا لا يمكن فهم الضجة التي يثيرها البعض حول شروط الاستخدام الجديدة، التي أعلن تطبيق «واتساب» للتواصل الفوري بين المستخدمين عن اعتزامه فرضها قريبا، والتي تتضمن موافقة المستخدم على نقل بياناته وأنشطته، وحتى ما يتاح من معلومات عن معاملاته التجارية إلى منصة التواصل الاجتماعي فيسبوك، ما دام الواقع يفيد بأن مجرد اتصال الشخص بشبكة الإنترنت، يضعه عمليا تحت الرقابة، حتى إن كان غير مستهدف شخصيا منها، وهذا يعني بالمحصلة أن جميع التطبيقات والمواقع الأخرى التي يُشاع عن تميزها بحماية خصوصية وبيانات المستخدم، لا يمكن لها عمليا الوفاء بتعهداتها على نحو مكتمل، ما دامت تستخدم شبكة الإنترنت للوصول إلى مئات الملايين من مستخدميها عبر العالم، بل لا يمكن لها تحقيق أرباح ومداخيل تستطيع من خلالها تمويل تكاليف تشغليها وبقائها في سوق يتميز بالمنافسة الشديدة، بدون بيع بيانات مستخدميها أو تسريبها بطريقة أو بأخرى.وينسحب هذا الامر على التشكيك بسرية ما يعرف «بالأنترنت المظلم أو العميق» الذي يكون الجزء الأعظم من المحتوى الحقيقي لشبكة الإنترنت، الذي لا يمكن الوصول إلى مواقعه وما يتاح فيه من محتوى، إلا عبر محركات بحث خاصة توفر خصوصية وسرية للمستخدم، وأيضا للمواقع والمنصات ذاتها المتواجدة عليه، ويكمن مصدر التشكيك بجهل المستخدمين للجانب المظلم في شبكة الإنترنت بالجهات الحقيقية التي تدير محركات البحث التي يعتمدونها للولوج إلى عالم «النت المظلم»، أو تلك التي تتيح إنشاء مواقع وقواعد بيانات فيه والتي تعرف بالتأكيد الهوية الحقيقية للمستخدمين، سواء أكانوا متصفحين عاديين أو أصحاب مواقع ومنصات يسعون لإخفاء هوياتهم الحقيقية.يُشار بالعربية أحيانا إلى أمر مكروه لكن لا مفر منه بعبارة « شرٌ لا بد منه»، وهذه العبارة تنطبق في ايامنا هذه على شبكة الإنترنت، الحاضنة الكبرى لما يخشاه البعض من برامج وتطبيقات ومواقع يشتكي أو يشك بقيامها بالتجسس عليه.فيما يتقبل بقية المستخدمين التعامل مع هذا «الشر الذي لا بد منه» مطمئنين ومستندين إلى ما يعتبرونه «عادية ومشروعية» استخداماتهم وأنشطتهم على الشبكة.كاتب فلسطيني