لعقود، شكلت نظرية "الدولة التنموية" طريقة فهم أغلبنا لكيفية ازدهار اقتصادات النمور الآسيوية خلال الفترة الممتدة من الستينيات إلى الثمانينيات، حيث تم ربط هذه النجاحات بالتدخلات الحكيمة من قبل التكنوقراط الحكوميين.
ولكن ابتداءً من أوائل التسعينيات، بدأت فاعلية الدور الحكومي تتراجع، وأصبحت الأسواق العالمية أكثر تعقيدًا، مما أجبر الشركات الشرق آسيوية على الاعتماد على نفسها في سعيها من أجل إيجاد سبل للتنافس في الأسواق العالمية.
ثلاث طرق انتهجتها الشركات الآسيوية التي نجحت في تطوير نموذج أعمال قادر على المنافسة عالميًا ربطت نفسها خلاله بأكبر سلاسل التوريد العالمية. فبعضها تعلم كيف يتخصص في صناعات محددة ويتميز فيها، وهذا بالضبط ما فعلته شركات بناء السفن الكبيرة في كوريا الجنوبية وسنغافورة.
بينما نجحت أخرى في إيجاد موطئ قدم لنفسها على الساحة العالمية كعلامات تجارية تتمتع بحصص سوقية معتبرة، مثل "آيسر" في تايوان، و"سامسونج" و"إل جي" و"هيونداي" في كوريا الجنوبية. في حين ركزت الفئة الثالثة على تقديم خدمات التصميم والتصنيع إلى العلامات التجارية الرائدة، كما تفعل "فوكسكون" التايوانية مع "آبل".
"فكسكون" .. قصة صعود نموذجية
- في كتابه "الاقتران الإستراتيجي" يستعرض "هنري واي تشونج يونج" ظروف صعود الشركات البارزة في اقتصادات النمور الآسيوية، ويشرح كيفية نجاح تلك الشركات التي تعتبر في الأساس نتاج السياسة الصناعية للدولة في شق طريقها بنفسها وربط قدراتها بسلاسل التوريد العالمية.
- "هون هاي المحدودة للصناعات الدقيقة" المعروفة باسم "فوكسكون" وقعت تحت رادار وسائل الإعلام العالمية عندما ظهرت لأول مرة في قائمة "فوربس آسيا" لعام 2005. فالشركة التايوانية نجحت بخطوات واثقة ومدروسة في ربط نفسها بأكبر العلامات التجارية في العالم.
- ربما تكون "فوكسكون" هي الحالة الأكثر استثنائية لشركة مملوكة لعائلة، استطاعت النمو بسرعة خلال العقد الأول من القرن العشرين، لتصبح أكبر شركة صناعية في تايوان وأكبر مزود لخدمات تصنيع الإلكترونيات في العالم.
- تأسست "فوكسكون" في عام 1974 كشركة تعمل بمجال تصنيع قطع الغيار البلاستيكية، مثل مقابض تغيير القنوات في التلفزيونات الأبيض والأسود، لكن لم تحقق أعمالها نموًا هائلًا إلا في أواخر التسعينيات.
- خلال الثمانينيات، أصبحت "فوكسكون" مُصنعًا لمجموعة متنوعة من قطع الغيار الإلكترونية، تشمل موصلات وكابلات أجهزة الكمبيوتر المكتبية والمحمولة. وبحلول عام 1996، بلغت إيرادات الشركة حوالي نصف مليار دولار أمريكي.
- حتى ذلك الوقت وقياسًا بالإيرادات السنوية، كانت "فوكسكون" أصغر من شركات تايوانية أخرى مثل " كوانتا كمبيوتر" و"كومبال إلكترونيكس"، واستمر الوضع على هذا الحال بعد بداية الألفية الثالثة.
- لكن بحلول عام 2010، تجاوزت المبيعات السنوية لـ"فوكسكون" حاجز الـ100 مليار دولار لأول مرة (إيراداتها في عام 2016 بلغت أكثر من 140 مليار دولار). وبلغ معدل نموها السنوي المركب منذ عام 1996 حوالي 46%.
نحو القمة
- لكن كيف تمكنت الشركة التايوانية المغمورة وغير المعروفة حتى أواخر التسعينيات أن تصبح أكبر مُصنع للإلكترونيات في العالم مع مبيعات سنوية تتجاوز عائدات منافسيها التسعة الأكبر في العالم مجتمعين؟
- السر يكمن ببساطة في اعتماد الشركة التايوانية التي توظف لديها عدة ملايين لنموذج أعمال نجحت من خلاله في تدشين شراكات إستراتيجية مع أكبر الشركات العالمية، مثل "آبل" و"ديل" و"إتش بي" و"إنتل" و"نوكيا" و"موتورولا" و"سوني" و"توشيبا".
- أول إنجاز حققته "فوكسكون" في سعيها لتدشين شركات إستراتيجية مع الشركات العالمية الرائدة كان عام 1995، حين التقى مؤسسها "تيري جو" مع "مايكل ديل" في جنوب الصين.
- في طريقهما إلى المطار نجح رجل الأعمال التايواني في إقناع مؤسس "ديل" البالغ من العمر وقتها 30 عامًا بزيارة مصنع الشركة في مدينة شنتشن الصينية، وعرض عليه حلاً لمعاناة "ديل" في إدارة نظم التصنيع وسلاسل التوريد الخاصة بها.
- في ذلك الوقت كانت "ديل" وشركات الكمبيوتر الأخرى تقوم بشراء المكونات الإلكترونية من مورديها قبل أن تقوم بتجميعها في مصانعهاالخاصة. ولكن "فوكسكون" كانت قد أنشأت خط إنتاج كامل دمجت خلاله معظم هذه الأجزاء العمليات، ويخرج منه المنتج جهازًا للبيع.
- عقب هذه الزيارة أصبحت "فوكسكون" أكبر مورد إلكترونيات لدى "ديل". ومن خلال التعاون الوثيق مع شركات رائدة في مجال الكمبيوتر الشخصي مثل "ديل" و"إتش بي"، أصبحت الشركة التايوانية بحلول عام 2004 أكبر مُصنع للإلكترونيات في العالم.
- في العام 2005، ساعدتها شراكاتها الإستراتيجية مع "موتورلا" و"نوكيا" على أن تصبح أيضًا أكبر مزود لمكونات الجوالات المحمولة في العالم، حيث بلغت عائداتها من هذا النشاط فقط حوالي 6.3 مليار دولار.
"آبل" و"فوكسكون" .. وجهان لعملة واحدة
- من بين كل الشراكات الإستراتيجية التي دشنتها "فوكسكون" مع كبرى الشركات العالمية، يبرز تعاونها مع "آبل" باعتباره الأهم والأكثر تأثيرًا في تاريخ الشركة.
- عبر شركتها التابعة "فوكسكون إنترناشونال" التي تتخذ من الصين مقرًا لها والتي تأسست في عام 2000، تقوم "فوكسكون" بشكل حصري تقريبًا بتصنيع وإنتاج جهاز "آبل" الشهير "آيفون" (منذ إطلاقه لأول مرة في عام 2007) و"آيباد" (منذ إطلاقه في عام 2010)، كما تعتبر واحدة من بين الشركات القليلة المصنعة لجهاز "آي بود" الذي أطلق لأول مرة في عم 2001.
- القوة التنافسية التي تتمتع بها "فوكسكون" كمُصنع للإلكترونيات كانت عاملا مهما وحرجا للغاية في نجاح "آبل" منذ إطلاق "آيفون". فعندما كشف "ستيف جوبز" عن النسخة الأولى من "آيفون" في التاسع من يناير/كانون الثاني عام 2007، كانت الشركة لا تملك سوى 6 أشهر قبل حلول التاريخ الذي أعلنته كموعد توافر المنتج في الأسواق.
- استلمت "آبل" أول شحنة من أجهزة "آيفون" من "فوكسكون" في 29 يونيو/حزيران 2007. وبعد 5 سنوات تم تقليص الفارق الزمني بين الإعلان عن الإصدار الجديد وموعد طرحه في الأسواق إلى أقل من أسبوعين.
- فقد تم الكشف عن تصميم جهازي "آيفون 6" و"آيفون 6 بلس" في التاسع من سبتمبر/أيلول 2014، وبحلول التاسع عشر من الشهر نفسه كان الجهازان متاحين للشراء في الولايات المتحدة وكندا فرنسا وألمانيا وهونج كونج واليابان وبورتريكو والمملكة المتحدة.
- هذه الفجوة الزمنية التي تفصل بين الإعلان عن التصميم وموعد طرحه في الأسواق قصيرة جدًا، وتعتبر ميزة تنافسية لـ"آبل" وتبرز في نفس الوقت نجاح "فوكسكون" التي تتولى التصنيع والتوزيع. والكثير من منافسي "آبل" عادة ما يتراوح طول هذه الفترة لديهم من شهر إلى عدة أشهر. (تستطيع "فوكسكون" إنتاج 500 ألف وحدة من "آيفون" يوميًا).
مشكلتك هي مشكلتي
- "فوكسكون" التي صنعت أكثر من 500 مليون وحدة من "آيفون" منذ إطلاقه، أصبحت جزءًا حاسمًا من نجاح "آبل" بفضل قدراتها التي تشمل سرعة تكثيف حجم الإنتاج ومراقبة الجودة العالية والأسعار التنافسية، وهو ما جعلها قوة لا يستهان بها، تسهم في نجاح "آبل" وغيرها من العلامات التجارية الرائدة في القطاع التكنولوجي.
- "فوكسكون" بالنسبة لـ"آبل" لا يمكن اعتبارها مجرد مقاول من الباطن، بل هي شريك تجاري مهم ورئيسي، وعلى الرغم من أن كلا الجانبين يتخذان في الفترة الأخيرة خطوات لتقليل حجم الاعتماد المتبادل بينهما، إلا أن مصالحهما التجارية لا تزال متشابكة جدًا. فنجاح "آيفون" يعتمد على "فوكسكون" و نمو "فوكسكون" يتوقف على "آيفون".
- "آبل" و"فوكسكون" يتقاسمان النجاح والفرص، وفي نفس الوقت تواجه الشركتان المخاطر نفسها تقريبًا.
- على سبيل المثال، وجدت "آبل" نفسها في مرمى النيران، بعد أن أشارت تقارير صحفية إلى حالات انتحار متكررة من قبل موظفي "فوكسكون" في الصين. فقد وجه النقاد سهامهم إلى الشركة الأمريكية التي اعتبروها مسؤولة عن ظروف العمل القاسية لدى موردها الرئيسي.
- على إثر هذا الحادث، هرع "تيم كوك" الذي كان لا يزال مديرًا لعمليات "آبل" في يونيو/حزيران عام 2010، إلى الصين للقاء رئيس "فوكسكون" مصطحبًا معه اثنين من خبراء إدارة المخاطر.
- أجرت "آبل" تحقيقًا استمر لمدة شهر من أجل التوصل إلى كيفية التعامل مع الوضع، واتخذت إجراءات التزمت الشركة التايوانية بتنفيذها. ومنذ ذلك الحين زار "تيم كوك" مصانع "فوكسكون" بنفسه في ثلاث مناسبات أخرى: في عام 2012 بعد فترة قصير من وفاة مؤسس الشركة "ستيف جوبز" وفي عامي 2014 و2015.
الاستعانة بأبناء الوطن
- بغرض استيعاب التكنولوجيات الأجنبية وتطوير قدراتها الإدارية، حرصت الشركات الشرق آسيوية ومن بينها "فوكسكون" على الاستفادة من "هجرة العقول" بشكل عكسي، وذلك من خلال الاستعانة بالعائدين من الخارج الذين درسوا بأفضل الجامعات وعملوا لدى أكبر شركات التكنولوجيا العالمية في أكثر الأسواق تنافسية وأكثرها تقدمًا من الناحية التكنولوجية مثل وادي السيليكون.
- اعتمدت الاقتصادات المحلية الشرق آسيوية على هذه الكفاءات في إنشاء جيل جديد من مؤسسات القطاع الخاص. وساهم هؤلاء التقنيون في بناء القدرات الديناميكية للشركات الآسيوية في أوائل الثمانينيات.
- الدور الحاسم الذي لعبه هؤلاء في تطوير صناعات التكنولوجيا فائقة الدقة بالاقتصادات الشرق آسيوية خلال التسعينيات لا يعكس أهمية الحوافز الحكومية والسياسة الصناعية التي تبنتها هذ الدول بقدر ما يعكس المهارات التقنية والإدارية للمهنين ورواد الأعمال والتي اكتسبوها من خلال احتكاكهم بشبكات الابتكار والإنتاج المعولمة.
- منذ أواخر التسعينيات، أدى ظهور هؤلاء التقنيين العائدين إلى أوطانهم كقادة للشركات الشرق آسيوية الكبرى إلى تحول تدريجي في شبكة الإنتاج العالمية، من خلال بروز لاعبين كبار في صناعة التكنولوجيا من خارج الولايات المتحدة وأوروبا.