“إن المرافق والإدارات العمومية تعاني من عدة نقائص، تتعلق بالضعف في الأداء وفي جودة الخدمات التي تقدمها للمواطنين، كما أنها تعاني من التضخم، ومن قلة الكفاءة، وغياب روح المسؤولية لدى العديد من الموظفين(…)”.
حينَ كان المواطنون المغاربة يستمعون إلى هذه الكلمات، المقتطفة من الخطاب الذي ألقاه الملك في افتتاح البرلمان يوم 14 أكتوبر الماضي، كانوا يتوقّعون أنْ تحدث “ثورة” في الإدارة العمومية، تغيّر الصورة المرتبطة في أذهانهم بـ”مسار المحارب”، كما قال الملك.
في الأيام القليلة التي أعقبتْ خطاب افتتاح الدورة التشريعية الجديدة، تحدّثت الصحافة عن اجتماعاتٍ عُقدتْ بعدد من العمالات، وعن مُراسلاتٍ وُجّهتْ إلى مديري الإدارات لتفعيل مضمون الخطاب، لكنَّ العديد من المواطنين يروْن أنّ لا شيء تغيّر، وأنَّ الإدارة ما زالتْ على حالها.
“الإدارة ما زالتْ كما كانت، رغم خطاب الملك. لا زال الوقت بعيدا حتى تصبح الإدارة المغربية رهن إشارة المواطنين”، يقول رامي، عازيا سببَ صعوبة إصلاحها إلى “مسامير الميدة”، الذين قالَ إنهم يرفضون الإصلاح، ويعرقلون عملَ الموظفين الراغبين في خدمة المواطنين.
رامي ضربَ مثلا بما عاشه يوم الأربعاء الماضي حينَ قصدَ مندوبية الضرائب في مدينته؛ “حيث لاحظتُ أنَّ الموظف الذي كنتُ في مكتبه كانَ مغلوبا على أمره، فبعد أنّ طالبَ مسؤوليه بملفّ أجابوه بأنهم لم يعثروا عليه. فأين اختفى، علما أنّ كلّ ورقة يتم الاحتفاظ بها في الأرشيف؟” يقول رامي لهسبريس.
وإذا كانَ الملك قد أكّد في خطابه أمام “ممثلي الأمة” أنّ “المسؤولية تتطلب من الموظف، الذي يمارس مهمة أو سلطة عمومية تضع أمور الناس بين يديه، أن يقوم على الأقل بواجبه في خدمتهم والحرص على مساعدتهم”، فإنَّ مواطنينَ يروْن أنّ هذا الأمرَ لم يجدْ بعدُ طريقه إلى التفعيل.
يحكي سيدي علي، في تدوينة على صفحته بـ”فيسبوك”، أنّه قصدَ مديرية الموارد البشرية لوزارة الصحة بالرباط قادما من أكادير للاستفسار عن معلومة بسيطة تتعلق باستكمال ملف ابن صديق له، لكنّ عوْن الأمن منعه من الدخول إلى مكتب الموظفة المكلّفة بداعي أنَّ الاستفسار يتطلّب وكالة.
وأضاف أنّه اضطر إلى المكوث أمام الإدارة وقتا طويلا، “إلى أنْ خرجت الموظفة لأعترض سبيلها وتجيبني بكل احترام، وأحصل على معلومتي على ناصية الشارع!”.
الإصلاح لا يمكن أن يتمّ بين عشية وضحاها
في كلمة ألقاها أمامَ المجلس الوطني لحزبه بعد أسبوع من خطاب الملك في البرلمان، قالَ رئيس الحكومة المكلّف، عبد الإله بنكيران، “كنا في غاية السرور بعد خطاب جلالة الملك، وقلنا لو أننا، في الحكومة، أخذنا الخطاب كمنهج وكبرنامج للعمل في الخمس سنوات وننجح فيه فهذا كافٍ”.
بنكيران بَدا متفائلا بشأنِ إصلاح الإدارة العمومية، وقال: “الخطاب الملكي سيشجعنا وسيفتح لنا الآفاق، ويمكن القول إنَّ الطريق أصبحتْ سالكة لإصلاح الإدارة”؛ لكنَّ هذا الإصلاح، بحسب إسماعيل الشرقي، باحث في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، “لا يمكن أن يتمّ بين عشيّة وضحاها”.
الشرقي يرى أنَّ الإدارة المغربية تتخبّط في مُشكل بنيوي معقّد، نتيجة تراكم لسنوات طويلة، مشيرا إلى أنَّ جُملة من العوامل أفضت إلى هذا الوضع، منها غياب الديمقراطية والمساواة أمام القانون، وانتشار الفساد الإداري، والمحسوبية والزبونية التي كانت تتحكّم في توظيف الموارد البشرية، سواء في الوظائف العادية أو في مناصب المسؤولية.
من العوامل الأخرى التي يرى الشرقي أنها أدّتْ إلى الوضعية التي آلت إليها الإدارة المغربية، “حالة الإحباط التي يعاني منها العديد من الموظفين، بسبب غياب المساواة في العمل المراد القيام به وفي الرواتب من قطاع إلى آخر، ووجود نظام للتنقيط والتحفيز مبني ليس على العطاء والمردودية والابتكار، وإنما على الولاءات الشخصية للرؤساء الإداريين والتملق وقضاء أغراضهم الشخصية”.
وفيما ينتظر المغاربة تفعيل توجيهات الملك للحكومة في خطاب 14 أكتوبر، توقّعَ الشرقي ألّا يتحسّن واقعُ الإدارة المغربية في ظلّ الواقع الحالي، وبالتالي استمرار معاناة المواطنين المغاربة، الممتدّة لعقود، مستحضرا في هذا السياق عددا من الرسائل الملكية الموجّهة إلى الحكومات المتعاقبة منذ سنوات التي لمْ تجدْ بعدُ من يفعّل مضمونها على أرض الواقع.
“ماذا تغيَّر بعد الرسالة الملكية الموجهة إلى الوزير الأول الأسبق عبد الرحمان اليوسفي حول موضوع التدبير اللامتمركز للاستثمار سنة 2002؟ وماذا تغير بعد اعتماد برنامج المغرب الرقمي لسنة 2009 الذي رصدت له الدولة اعتمادات مالية بقيمة خمسة ملايير و200 مليون درهم دون أن تظهر نتائجه على أرض الواقع؟ وماذا عن الخطاب الملكي حول عمل القنصليات سنة 2015؟”، يتساءل المتحدث.
ضرورة وضع إستراتيجية للإصلاح
في خطابه أمام البرلمان، قالَ الملك إنَّ المواطنين المغاربة ما كانوا ليلجؤوا إليه لحلّ مشاكلهم مع الإدارة “لوْ لمْ تكن أبواب الإدارات مُغلقة في وجههم”. وفي هذا الإطار، يرى إسماعيل الشرقي أنَّ عدمَ إصلاح الإدارة المغربية إصلاحا جذريا ستكون له عواقبُ وخيمة مستقبلا، في ظلّ تنامي وعي المجتمع المغربي، ورفْض المواطنين المغاربة لـ”الحُكرة والتهميش والتمييز غير القانوني بينهم”.
وأشار المتحدث إلى واقعة مقتل بائع السمك محسن فكري بمدينة الحسيمة، وما أعقبها من مسيرات احتجاجية في عدد من مدن المملكة، معتبرا أن “لا مجال للتسامح مع التمييز في ظل الوعي الكبير الذي يتمتع به المواطنون المغاربة واستعدادهم للدفاع عن حقوقهم التي يكفلها الدستور والقانون، وعلى الدولة أن تواكب مطالب الشارع كفضاء للاحتجاج وتتحرك من أجل إصلاح الإدارة وتقر إجراءات ترسيخ دولة الحق والقانون وإقرار المساواة بين الجميع أمام القانون، وإلا فإن الأمور ستخرج عن السيطرة”.
ويرى الباحث في العلوم السياسية أنّ تحقيق هذا المبتغى يقتضي من الدولة التفكير في وضع استراتيجية وطنية يساهم فيها الجميع، الحكومة والبرلمان والأحزاب سياسية والإدارات والمؤسسات العمومية وهيئات المجتمع المدني.
وأضاف أنَّ العمل المشترك بين هذه الأطراف “يجب أن يتمخّض عن بلورة خطة شمولية تنطلق من تشخيص الاختلالات، وتضع تصورات وترصد الموارد المالية واللوجستيكية والبشرية وتضع آليات للمراقبة والتقييم الدوري للمنجزات، وتعيد النظر في نظام التوظيف ليكون مبنيا على المساواة والتباري العادل وقائما على الكفاءة والاستحقاق، وإقرار نظام لتقلد مناصب المسؤولية مبني على المساواة والكفاءة وبرامج العمل، وليس على أساس الولاء الحزبي أو المحسوبية أو تبادل المصالح، وتبنّي إدارة إلكترونية متطورة لتقصير المسافات والاستجابة الفورية للمتطلبات”.