منذ الأربعاء الماضي وأنا أنتظر مقال اليوم كي أقول إننا على أعتاب قفزة حضارية هائلة وصناعية مذهلة، وبقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان فإن الشباب السعودي سيعيد صناعة المستقبل وخريطة الاقتصاد العالمي والمنطقة كلها، وكي تتضح الأمور فإنني أعود بالذاكرة للحظات الأولى لانطلاق الاقتصاد الياباني والألماني خاصة بعد الحرب فمن منا من لم يسمع بالقصص والبطولات التي سطرها العلماء اليابانيون والألمان عقب الحرب العالمية الثانية وقدرتهم على العودة للأسواق والاقتصاد وذلك بقوة المحركات.
وهناك قصة الشاب الياباني الذي سافر للدراسة في ألمانيا ثم عاد وقد تعلم كيف يصنع محركا، وهناك قصة أخرى عن شخص يدعى تويودا تمكن من تطوير أول محرك لآلة أتوماتيكية لحياكة النسيج في اليابان، ومنها انطلق نحو صناعة محركات السيارات، وبالتأكيد فقد سمعنا عن كارل بنز أول من صنع محركا للسيارات وسار بها، ولعلك تندهش إذا عرفت أن الصناعة الألمانية عندما بدأت تنافس الصناعة الإنجليزية في مستعمراتها التي لا تغرب عنها الشمس اضطرت الحمائية الإنجليزية أن تضع على منتجات ألمانيا عبارة "صنع في ألمانيا"، على أساس أن هذا كان كافيا للقول بأنها الأقل جودة، لكن هذا تحول إلى ميزة تجارية يبحث عنها العالم أجمع فيما بعد، وباختصار كان إنتاج وإعادة إنتاج المحرك "بشتى صوره وأحجامه" هو الذي أبدع كل تلك القوة الاقتصادية الجبارة للآلتين: اليابانية والألمانية وكانت صناعة المحركات هي مصدر الثراء في الثورات الصناعية الأولى والثانية والثالثة فمن كان يملك القدرة على صنع المحركات من اللحظات الأولى لصب المعادن حتى صناعة التروس والعجلات والدوائر الكهربائية وتشغيل المحرك بالوقود في نهاية المسار سيجد نفسه في قمة الاقتصاد العالمي وعضوا في مجموعة السبعة الكبار.
لكن مع الثورة الصناعية الرابعة يبدو الأمر مختلفا، فلم تعد صناعة المحركات هي الخط الفاصل بين الدولة الصناعية وغيرها، بل هي أشباه الموصلات، والفرق بين دور صناعة أشباه الموصلات وصناعة المحركات اليوم كالفرق بين المحرك البخاري ومحرك الاحتراق الداخلي، ومن سيملك القدرة على تصنيع تلك الرقائق الإلكترونية فسيحجز مقعدا بين السبعة الكبار إذا لم يأخذ منهم تلك المقاعد، فكل شيء اليوم أصبح يعتمد على تلك الرقائق الصغيرة التي لا ترى من بعيد، وإذا كنت مثلي من ذوى النظارات فإنك ستجد صعوبة في رؤية تفاصيلها لو كانت بين يديك، لكنها كفيلة أن توقف إنتاج دولة كبرى مثل الصين، فلقد أثبتت الشهور القليلة التي أعقبت انتشار فيروس كورونا أن هناك أزمة في تنصيع تلك الرقائق، فالصين التي تنتج رقائق بقيمة 100 مليار دولار تستورد منها أكثر من 300 مليار دولار، كما أن مساهمة صناعة تقنية أشباه الموصلات في الاقتصاد العالمي تبلغ سبعة تريليونات دولار سنويا، من بينها 3.3 تريليون دولار مساهمات في قطاع الإلكترونيات والكمبيوتر، وفي مجال الصناعات العامة تقدر المساهمة السنوية بنحو 2.3 تريليون دولار، وفي مجال المركبات وقطاع المواصلات 1.4 تريليون دولار.
صناعة أشباه الموصلات مثل المحركات تماما فيه تحتاج إلى مسابك وخطوط إنتاج خاصة ومعقدة وتتطلب وقتا وجهدا ومعرفة تقنية عالية وهناك من يرى أن الأمر قد يستغرق أكثر من عشرة أعوام لتطوير بعض أدوات تلك الصناعة فالأمر ليس سهلا كما يبدو كما أن الصراع العالمي على أشده في هذه الصناعة فمن يتمكن من الاكتفاء الذاتي في هذه الصناعة، بدءا من صناعة أدواتها تصنيعها حتى وفرتها ستكون له الهيمنة على الاقتصاد العالمي لقعود طويلة، فلا شيء يمكن أن يعمل اليوم دونها فلا اتصالات ولا ذكاء الآلة ولا إنترنت الأشياء يمكن أن تعمل دونما توفر هذه الرقائق وبكميات كبيرة ودون التعرض لمشكلات في سلاسل التوريد الخاصة بها، ومن سيظل غير قادر على صناعتها بنفسه سيكون كمن لم يصنع المحركات في القرن الماضي، ينظر بإعجاب للآخرين ويتأمل عجيب صناعتهم، بينما يقوم بصرف كل ما يدخره وكل ما ينتجه من غذاء وطاقة من أجل الفوز بتلك التقنيات.
ولست أبالغ عندما أقول إن إعلان وزير الاتصالات وتقنية المعلومات السعودي تصنيع أول رقائق ذكية داخل المملكة بأيد وعقول سعودية كان إعلانا مذهلا بكل التفاصيل، بكل ما يحمله من وعود ضخمة في المستقبل القريب بإذن الله، بكل الآمال الكبيرة المعقودة عليه، فنحن بصناعة هذه الرقاقة الإلكترونية كأننا نستعيد تلك اللحظات الحرجة من عمر الاقتصاد العالمي عندما قام كارل بنز بصناعة المحرك وعندما انطلقت آلة المصانع اليابانية بكل اقتدار لتفرض وجودها على الساحة العالمية، فكأن دورنا قد حل، وصناعتنا قد انطلقت Launch مع صناعة هذه الرقائق محليا ولديها قوة معالجة بأكثر من 60 ألف ضعف مما في الهواتف الذكية وما تستخدمه الشركات العملاقة، مثل "أبل" و"جوجل" و"مايكروسوفت" و"أمازون" و"آي بي أم" و"سيكسو" و"أوراكل" و"علي بابا".
ولقد أكد وزير الاتصالات أن عملية التصنيع المحلية لهذه الرقائق السحرية قد جاءت عبر توجيهات ودعم من ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، ولهذا فإن أطلق على تلك الاحتفالية التي أعلن فيها بـ Launch، ولا شك أنه اختيار موفق جدا لأننا فعليا ننطلق بقيادة ولي العهد لمرحلة اقتصادية جديدة متكاملة العناصر، وما يؤكد هذا الحديث هو تلك الرغبة الكبيرة من الشركات العالمية للانضام للمشروع والمشاريع المصاحبة له من تدريب وخلافه.
نقلا عن الاقتصادية