دارسو الفلسفة يعرفون مصطلح «ميتا» في أول دخولهم إلى عالم الفلسفة، فهو يعني ما وراء. فهناك دائما ما وراء الطبيعة، يُعنى بمسائل الوجود والله، وتنضم إليه الروح والنفس البشرية، فمهما وصلت العلوم إلى فهم النفس البشرية وأمراضها وعلاجها، تظل قضية النفس من القضايا المعقدة. أما الله فظل دائما وسيظل موضوعا لما وراء الطبيعة، لا يمكن للعلوم مهما تقدمت أن تجد دليلا عليه، أو وصولا إليه فهو غير مجسم، وهو حاجة بشرية لاتزان النفس في هذا العالم القاسي، فهو رب الحساب لكل من لا يخافون الحساب في الدنيا، وعليهم أن يدركوا أن حساب الآخرة باقٍ. الأديان لجأ إليها الإنسان لاتزان النفس، وتاريخها طويل في تطورها من التشخيص إلى التجريد، الذي رغم انتشاره لا يزال التشخيص في عبادات كثيرة في العالم.وحتى نعود إلى موضوعنا عن الميتافيرس، أي ما وراء العالم وهو الموضوع الذي أثاره في نفسي تصريح مارك زوكربرغ عن تغيير اسم فيسبوك إلى ميتا. الضالعون في علوم الاتصالات والميديا يعرفون أن هذا تطور طبيعي ليس مفاجئا، فلا بد من مرحلة أكثر تطورا تتجاوز العالم المعتاد لكل شخص أو تفتح له الطريق إلى ذلك. لقد كان أول ظهور لمصطلح ميتافيرس من قبل في رواية «تحطم الثلج» لنيل ستيفنسون عام 1992، إذ تتفاعل شخصيات الرواية الخيالية في فضاء افتراضي ثلاثي الأبعاد، وبعدها بدأ تكرار المصطلح بأشكال مختلفة، كلها تبحث عن آفاتار أو عالم خيالي لكل شخص أو عدة أشخاص. يحدث هذا في الوقت الذي تسيطر فيه على عالمنا العربي ومنصاته الإعلامية، الخلافات السياسية التي تجاوزها الزمن كما تجاوزنا. طبعا ليس لدينا حتى الآن معرفة يقينية هل سيتغير اسم فيسبوك فعلا، ويصبح ميتا، أو سيظل كما هو وتصبح كلمة ميتا علامة على مجالاته الجديدة وآفاق حركته؟ وفي حالة تغيير الاسم، هل سيحتفظ فيسبوك بما سجله الرواد عليه من نشاط وشعارات ورسائل؟ أم ستذهب كلها في مهب الريح؟ أم ستكون كما يقال متاحة لكل من يدخل مجالك الافتراضي أو آفتاراك فستقرِّب الحالة الجديدة للفيسبوك بين الثقافات والبلاد، بل ستمزج بينها، ومن ثم ستكون كثير من بيانات المستخدمين متاحة للمستخدمين الآخرين، كأنها غير متاحة الآن! وكأنك طول النهار لا يدق تليفونك ولا تتوقف الرسائل إليك من شركات البناء، لدعوتك لشراء شقة جديد بثلاثة ملايين جنيه، وأنت كل ما كسبته من رواتب ومكافآت في حياتك لا يصل إلى مليون جنيه، أو كأنك حين تصاب بألم ما أو مرض ما وتخبر صديقا لا ترى على صفحات فيسبوك فجأة عناوين كل العيادات الطبية المختصة بحالتك. وطبعا في حالة الميتا الجديدة، حين يرى الآخرون اهتماماتك من مواقع حضورك سيدركون بسهولة ميولك ورغباتك ودرجاتها بين الفنية والرياضية والأدبية، والعلاقات الأسرية والصداقات والحب.بالنسبة لي في عالمنا العربي لا يهمني ذلك، بل على العكس قد يكون مفيدا، لكن هل يمكن للأجهزة الأمنية أن تدرك الجانب الإيجابي في ذلك، فلا تقوم بتعذيب المتهمين للاعتراف بما لم يرتكبوه، فهي تراهم ليل نهار. أجل قد ينتهي التعذيب في السجون وأقسام الشرطة، وإن كنت اتصور أنهم أيضا سيعتبرون ما يظهر في الميتافيرس من باب الخداع، والحقيقة غير ذلك وسيستمر التعذيب والقمع، وقد تظهر أسئلة جديدة مثل من تذهب إليه في أمريكا كل يوم وتعود لتنام! ستجد الأنظمة القمعية مبررا لها ولوجودها الذي تعودت عليه. عن نفسي لا أهتم بمسألة المعلومات هذه، لأني عادة لا أكتب في فيسبوك أو تويتر ما أخجل منه أو أخشى أن يتم اختراق الموقع وسرقته، فهو بالنسبة لي فضاء افتراضي، كما يأتي يذهب. مؤكد أراحني من الاحتفاظ بالصحف التي فيها مقالات لي، أو مقالات عني، لكن حتى لو ضاع هذا كله سأجده في مكان آخر على غوغل، وحتى إن لم أجده فما مضى قد مضى، ولن يشغلني كثيرا البحث عنه. يشغلني الآن في موضوع الميتا أو الميتافيرس أننا سنستطيع أن نخلق لنا عوالم خاصة جدا نتجاوز فيها كل الحدود، وستتجاوز كل ما ظهر على الميديا من غرف نقاش وغيرها، ورغم أننا سنتجاوز الواقع الراهن والحياة حولنا، أتذكر كيف كان ذلك أملا لكل روايات الخيال العلمي عبر التاريخ. قبل روايات الخيال العلمي كانت الملاحم والقصص الشعبية في بلاد مثل اليونان، وقبلها مصر وبابل وآشور، فكل رحلات الأساطير كان لها وجهها الغريب، وهو القدرة على امتلاك العالم، مهما اتسع ومهما امتلأ بالصعاب. إنه حلم قديم يتحقق بتجليات مختلفة، ولن تكون الميتافيرس آخر تجلياته.المهم أننا في هذا التطبيق الجديد لن نكون فاعلين أو متفاعلين من خارج الحدث، بل سنكون في قلبه، وإن كان ذلك جميلا لهواة الألعاب الترفيهية فسيكون له شأنه في الأعمال، فأنت لست محتاجا مثلا أن تسأل عن أسعار شيء، بل تحل في المكان وتري كل شيء فيه وأنت في بيتك، بل ستجد أكثر من عالم افتراضي مترابط، بعضها للعمل وبعضها للعب، ومن ثم ستتأثر كل الأنشطة. وكما قلت ستجد نفسك حين تشاء في قلب التسوق أو في قلب العمل واجتماعاته وذلك كله وأنت في بيتك، مسترخيا، وطبعا سيتم تطبيق ذلك كله على الهواتف الذكية. لقد أطلقت شركة فيسبوك أو ميتا إعلانا عن نظارت يتم استخدامها في الاجتماعات واللقاءات الافتراضية، اعتبرها الرواد غالية الثمن إذ بلغ سعرها ثلاثمئة دولار، أو يبدأ سعرها به، ومن ثم لن يتوفر لكل من يشاء الدخول، لكن هذا أمر عادي في البداية فسرعان ما ستنتشر ويقل سعرها وتتاح للجميع.العالم يتغير بسرعة شديدة وفي لحظة الإعلان عن الجديد فيه. لقد تجاوزنا زمن الخيال العلمي والأحلام، ولن نكون في حاجة للانتظار الطويل حتى يصبح الخيال حقيقة فالخيال الذي يتحقق على الأرض فاق كل توقع. كيف ستكون في كل مكان في العالم بعد أن تنتهي من الخروج من غرفة عملك؟ طبعا لن أقول أن كثيرا من الأعمال ستتعطل، وستغلق أماكنها وستكون متوفرة افتراضيا، فهذا أمر صار معروفا الآن وبشدة مع ظهور كورونا، لكن أتحدث عن الفضاءات المتاحة للبشر في اللقاءات عبر العالم، ومن ثم سيفكر كثيرون في الهجرة بعد أن يشاهدوا ما حولهم، وربما أيضا يكتفون بالوجود الآفتاري لهم في البلاد الأخرى. لكن أيضا هل يمكن أن يقيم الفرد له مكانا يزداد مرتادوه ويكونون جماعة أو دولة صغيرة يختارون من بينهم حاكما ووزارة تدير شؤون حياتهم. أعتقد ان هذا لو حدث سيكون أهم إنجاز للبشر، إذ سيجد الحكام أنفسهم يحكمون الهواء، فلا شعب تحت أنظارهم، ولا تحت أيدي رجالهم ولا أرجلهم. ستبدأ رحلة أخرى في الخيال عن الحكام الذي استيقظوا فلم يجدوا شعوبا تحتهم وراحوا يبحثون في الميتافيرس عمن يريد أن يكون من شعبهم، فلا يجدون أي تجاوب، ويمكن لك أن تتخيل عشرات النهايات المبكية والمضحكة لهم.
روائي مصري